هشام محمود يوسف
فعل الكتابة الاجتماعية، الراصدة، أو الناقدة، أو حتى تلك المستطلعة، من أهم الأفعال الكتابية؛ بل وأصعبها، التي يجب أن تؤخذ باهتمام؛ وينصت لها الجميع بعناية فائقة، فعندما ترى مجتمعًا ما من خلال أبعاد تحليلية؛ فإنك لامحالة، ستبصر الحقيقة بأمِّ عينيك دون التحدث عنها فقط.
والكتابة عن قضايا المجتمع وطبيعته ليست جانبًا سلبيًا محضًا مهما كانت مفعَمة بالسلبيات أو غيرها، بل كلما كان المجتمع أكثرَ وضوحًا في قيمه وثقافته المتبادلة بين مواطنيه؛ دلَّ ذلك على واقع هذا المجتمع ووضوحه دون رتوش..، وكلما كان المجتمع يصعب فهمه كان ذلك دليلاً على ازدواجية خطيرة بين أنساقه الثقافة الاجتماعية..
وفعل الكتابة إذا صدر عن راصد ليس من رعايا ذلك المجتمع، مثل انطباعات المقيمين فيه، والزائرين له؛ تزداد أهميته؛ ففي علم الإنسانيات والاجتماعيات، يعدُّ الغرباء هم جماعة الاستبصار الذين يمنحون الباحث المعلومات والانطباعات الحقيقية عن المجتمع بحكم أنهم لم يكتشفونه بعد؛ وأحيانًا اقترابنا من اللوحة قد يحجب بعض تفاصيل الرؤية الجيدة، ومن هنا تأتي مسافة البعد مهمة لتتضح الرؤية.
وهكذا فعلت في تحرير هذه الجزئية عن الشخصية السعودية المعاصرة التي يمثّل الحديث عنها أهمية بالغة؛ في وقت يشهد فيه المجتمع السعودي تغيّرات مهمة وطفرة أخرى اقتصادية غير تلك التي حدثت في مطلع عقد التسعينيات الهجرية /السبعينيات الميلادية وباتت هذه ا لتغيّرات مثار نقاش على كل المستويات .. و الوعي بهذا التغيّر الذي أصاب الشخصية السعودية كفيل بأن نتلّمس الأزمة التي يعيشها مجتمعها، التي لم تعد مجرد مشكلة على مستوى الفرد بل تجذرت وازدادت عمقًا ..
ثمة حقيقة لابد من تجليتها وكشفها؛ وهي أنني أكن ودًا وحبًا كبيرين لهذا الكيان المسلم والعربي الكبير..المملكة العربية السعودية ؛ حتى لا يُفهم هذا العمل المتواضع خطأً؛ ويبدو بعيدًا عمّا أردتُ أن يظهر عليه من تقديم صورة مفصّلة للشخصية العربية السعودية دون مجاملة كما عايشتها، وكما لامستها، وهي صورة بالطبع بشرية ! ودعونا نتعامل معها على أنها من الكائنات البشرية التي تصيب وتخطيء! وتجد وتلهو ! بل وتأكل وتمرض، وتمشي في الأسواق وما أكثرها!
ولنكن موضوعيين في ا لحديث عنها حتى لا تحتمل أكثر مما تحتمله ؛ فعدم الحديث عنها بهذا الشكل في زعمي قد سبّب لها بعض المشكلات التي ثارت في جنبات الإعلام الدولي..؛ فهي إذن شخصية بها قدر من الإيجابية و بها قدر أيضًا من السلبية.. ولعل الله تعالى يوفقني في رصد كل منها على حدة بحياد دون شطط.. وتجريح أو نيل من أحد..؛ فهي قراءة للمجتمع الذي عشتُ فيه ردحًا من الزمن ـ وأتمنى له كلّ خير وازدهار.
إنني أومن ـ ومازلت ـ أن المجتمع السعودي في العقد الأخير كان أكثر المجتمعات العربية والإسلامية التي تعرّضت للظلم البيّن خارجيًا ؛ كما كان ضحيةً لأحداث مؤلمة داخليًا؛ فتعرّض مواطنوه لأحداث إرهابية راح ضحيتها المئات من الأبرياء من المواطنين والمسلمين والعرب والمستأمنين بغير وجه حق ..
لقد تعاملتُ بحكم عملي الإعلامي في المملكة مع شرائح مختلفة من المجتمع السعودي .. علمائه ونخبه؛ والسواد الأعظم لأكبر من هذا المجتمع العربي المسلم..؛ فألفيتهم مجتمعًا ودودًا بشوشًا هاشًا، باشًا، متدينًا؛ يحرص كل الحرص على أن يلم بأساسيات العلم الشرعي الذي تقوم بها شؤون حياتهم وتعاملاتهم.. يتحرّى معظمه الحلال وإن وجدتَ بعض الملاحظات عليهم! و لكن الخير ستجده في الغالبية منهم.. يُكِنون للعلماء وطلبة العلم الشرعي كل احترام وحب وتقدير؛ ويعدونهم قدوتهم ؛ فلاعجب من أن تراهم دائمًا يتحرون سؤالهم في كل ما يُشكل عليهم من أمور دينهم .. ويسعون دائمًا إلى التجمّل في الأعمال حتى تصل إلى درجة التمام وإن اختلفوا في درجات التدين أو دركات الانخراط في الملذات!
كان للحوار الوطني مفعول السحر في المجتمع السعودي؛ إذ فتح آفاقًا واسعة للقضايا والموضوعات محل التناقش والتدارس والتحاور و التباحث والتواصل والتفاعل مع الآخر المحلي والإقليمي والدولي؛ وكان من آثاره المتفتحة الكبرى انطلاق الرؤى الوطنية التي قدّمت آراء ناقدة، مقوّمة لمسيرة الشخصية السعودية؛ ولعل ذلك من الأسباب التي شجعتني على تسويد هذه الصفحات جنبًا إلى جنب مع ظهور بعض الظواهر السلبية خصوصًا في الأجيال اللاحقة، ومنها سمة السلبية واللامبالاة وتضخم (أنا) التي ضجت بها الشخصية السعودية بشكل واضح، تعكسه المواقف اليومية في الحياة السعودية: أماكن العمل وفي الشوارع ناهيك عن رحلاتهم السياحية..
مؤتمرات الحوار الوطني الثمانية وربما التسعة ـ كانت فرصة مناسبة لتدشين أول قاعدة ثقافية يمكن الانطلاق منها نحو صياغة خطاب ثقافي وطني؛ وتخفيف حدة التمظهرات الثقافية الخاصة. ولكن رويدًا رويدًا سرعان ما أن تحوّلت إلى ساحة لاستعراض الثقافات الخاصة وليس لالتقائها فضلاً عن الاتفاق على الحد الأدنى بين رعاتها من أسس خطاب ثقافي وطني مشترك..؛ فقد عاد رعاة الثقافات الخاصة من المؤتمرات وهم أشد التصاقًا بالذات الثقافية الخاصة، سوى بعض التعبيرات المبهمة، والمتوهمة وذات الصبغة الدبلوماسية بحسب مقتضى حال الحوار الوطنى! والتي تبعث ـ أي تلك التعبيرات ـ مجرد إشارات اطمئنان خافتة وفي بعض الأحيان غامضة.
ربما كان مطلوبًا إلى مركز الحوار الوطني أن يولي ضمن استهدافاته الرئيسة اهتمامًا بتنشئة خطاب ثقافي وطني، لا أن يكون مجرد إطار لملتقى الفرقاء. فما خطط له المسؤولون عنه لإشاعة ثقافة وطنية ربما لم تثبت النتائج العملية نجاحها، والسبب في رأيي أنه قد يعزو إلى توهُّج بعض الثقافات الخاصة فضلاً عن أن الثقافة السعودية ـ إن جاز هذا التعبير - لم تكن تمتلك مقومات حقيقية؛ فقد أعيد طلاء الخطاب الثقافي التقليدي بلون سعودي فحسب!
لذلك رأيت أهمية أن أعزِّز رأيي بشواهد من كتّاب ومفكرين سعوديين أنفسهم حول هذه الشخصية المحيّرة.. مبتدئًا بمفهوم الشخصية السعودية والتغيّر الذي طرأ عليها؛ فمن الثابت أن الملامح العامة للشخصية السعودية التي ميزتها لفترات طويلة قد طرأ عليها تحولات متنوعة ـ إلى حد كبير ـ ألقت بظلالها عليها بالرغم من وجود جهود متناثرة هنا وهناك بذلت لرصد بعض جوانب هذا التغيّر في ظل غياب خطة عامة موجهة لهذا التغيّر الحادث في هذه الشخصية؛ وبالتالي في المجتمع السعودي من هنا تتجلّى أهمية وضع استراتيجية لتوجيه التغيّر في المجتمع السعودي نحو التحديث وإقامة مجتمع المعرفة..
ومن هنا حدّثت نفسي في تناول هذا الموضوع الشائك الذي قد يحدث جدلاً واسعًا ولكنه في الأخير جدل إيجابي؛ فحسبه محاولةً الاقتراب من الشخصية السعودية المعاصرة، وما تتعرّض له من عوامل مؤثّرة في ظل الظروف المحيطة.. مذيلاً إياه بآليات الضبط الاجتماعي. فقد تثار أسئلة بعينها: لماذا الشخصية السعودية؟ وماذا عن العروبة؟ وما الشخصية السعودية؟ والاهتمام بهذه القضية وإثارة الأسئلة بشأنها أمر إيجابي؛ يبشّر بأنها بدأت تأخذ بعضًا من الاهتمام وإن كان ليس بالقدر الذي تستحقه؛ فهي شخصية لا تحتاج إلى تعديل بقدر ما تحتاج إلى السعي لاستعادتها وإنقاذها من ممارسات دخيلة أحيانًا على أصالتها؛ ما يعني أن المطلوب: فهم الشخصية السعودية الأصيلة ودعم إيجابياتها وصقلها وإزاله الغبار الذي ترسَّب عليها والصدأ الذي لحق بها؛ فستر بهاءَها ذلك الذي عُرفت واشتهرت به؛ ما أعطى انطباعا خاطئًا عن جوهرها ومقوماتها الإيجابيه الدفينة فيها؛ وهي مقومات تبرز للسطح دائمًا وقت الأزمات والمحن ثم سرعان ما تتوارى بعد ذلك! .. وإني من المؤمنين بأصالتها رغم ما يصيب النفس من الإحباط أحيانًا بفعل الممارسات المكتسبة عليها !
فلا أعتقد مثلاً أن هذا القلق أو هذه التساؤلات المشروعة حول ما حدث للشخصية السعودية أو الحال الذي آلت إليه كان أكثر إلحاحًا منه اليوم من أي يوم مضى! والأسباب ليست خافية أو عصيّة؛ فالعالم كله يتأثر ببعضه وتجتاحه تيارات معينه تفرض نفسها بأساليب متنوعة والسعودية كوطن في موقع وفي موقف يجعلها أقل مقاومة أمام المتغيّرات والإغراءات والضغوط!!
و الاعتزاز بالشخصية السعودية هو جزء من الاعتزاز بالأصالة السعودية والتراث العربي الأصيل على مدى مراحله؛ وهو سلاحها في خضم كل ما يجرف العالم الآن من تغيّرات فكرية وسلوكية تتهدد الجميع؛ ما قد تفقد بها البشريه تنوعها المبدع؛ والخلاَّق الذي يستمد منه الكون قوته وتوازناته !
الشخصية السعودية شخصية أصيلة ؛ وفي كثير من الجوانب فريدة..الحفاظ عليها مسؤولية إسلامية؛ وعربية؛ ووطنية؛ وأخلاقية... وهي تأثرت في الفتره الأخيرة أكثر ما تأثَّرت عبر العقود الماضية؛ وذلك لأسباب كثيرة : دولية واقتصادية وسياسية... واليوم يبدو أن الشخصية السعودية والسلوك السعودي عمومًا أصبح مزيجًا من الثقافة الغربية وعلى الأخص الأمريكية في قشورها ومظاهرها وليس في مزاياها كمصادر قوتها والثقافة النفطية في قيودها دون إمكاناتها !
إنَّ الشخصيه السعودية التي استوعبت سائر مخرجات الحضارات التي لم تخطفها أي منها بل تواصلت معها تتأقلم ولا تتبدل .. تتأثّر دون أن تذوب فيها.. وهو أمر يعدُّ في حد ذاته علامة من علامات الأصالة التي أشرت وقلت عنها: إنها شخصية أصيلة..؛ فبقي لديها إلى اليومَ بصمات ولمحات وخصائص وسمات قد تصل بين اليوم والماضي السحيق.
والقضايا التي تثيرها مسألة الشخصية السعودية تتمثّل في العوامل الدينية ؛ والجغرافية؛ والتاريخية؛ والسياسية؛ والاقتصادية؛ والطبيعية؛ والاجتماعية؛ والثقافية؛ التي أثّرت في تكوينها؟ وما سماتها ومزاياها، كما بلورتها هذه العوامل؟ ثم ماهية العلاقة بين الشخصية السعودية أي الخصوصية الوطنية والعربية؟ هل هي علاقه تصادم وتنافس أو تعايش وتعاون؟
يُتبع ........
للتواصل: mohry2008@gmail.com