الأحد، 22 مارس 2015

هكذا كان محمدًا..!



كان محمدًا بن عبدالله (ﷺ).. نبي الرحمة.. رسول الإنسانية.. برحمته وإنسانيته لم يبق مزاعم لزاعم! وبرحمته وإنسانيته.. لم يترك فرصة لمتصيّدي المياه العكرة من الادّعاء والكذب عليه..

كان محمد(ﷺ) الأخلاق كلها محضًا؛ ليس فيها ما يخالط مما يُلام عليه الإنسان، إلا إذا كان اللائم أعمـى البصـيرة، يرى الخير شـرًا والشـر خيرًا! أوحاسدًا أو متكبرًا أعماه الحسد والكيد عن رؤية الحقيقة التي لا تغيب عن أحد..!

إن حياة محمد (ﷺ) كما اطّلعت على جزيئات منها بلغت من السموّ ما لم يستطع إنسان أن يبلغ ولن يستطيع, وكانت لذلك أسوة حسنة لمن هداه القدر أن يحاول بلوغ الكمال الإنساني من طريق الإيمان والعمل الصالح..!

فأيُّ سموٍّ في الحياة كهذا السموّ في الحياة الذي جعل حياة محمد قبل الرسالة مَضرِبَ المثل في الصدق والكرامة والأمانة؛ كما كانت بعد الرسالة كلها التضحية في سبيل الله وفي سبيل الحق الذي بعثه الله به... تضحية استهدفت حياته من جرائمها للموت مرَّات؛ فلم يصد عنه أن أغراه قومه وهو (ﷺ) في الذروة منهم حسبًا ونسبًا بالمال وبالمُلك وبكل المغريات..!

فقد بلغت هذه الحياة الإنسانية من السموّ ومن القوة ما لم تبلغه حياة غيرها وبلغت من السمو في نواحي الحياة جميعًا. وما بالك بحياة إنسانية اتصلت بخالق الكون بفضل منه ومغفرة!

ولولا هذا الاتصال؛ ولولا صدق محمد(ﷺ) في تبلغ رسالة ربِّه تعالى؛ لرأينا الحياة على كرّ الدهور تنفي مما قال شيئًا؛ لكن خمسة عشر قرنًا من الزمان انقضى ومايزال بلاغ محمد (ﷺ) عن ربِّه تعالى آيةالحق والهدى؛ فلم يقل أحد خلال هذه القرون المنصرمة إنه نبيٌّ أو إنه رسول ربّ العالمين؛ فصدَّقه الناس..!

فقد قام في العالم على مرّ هذه القرون رجال تسنَّموا ذروة العظمة في غير ناحية من نواحي الحياة؛ فلم توهب لأحدهم هبة النبوة والرسالة..
ومن قبل (ﷺ) كانت النبوّات تتواتر والرسل يتتابعون فيُنذر كلٌّ قومه أنهم ضلوا ويردهم إلى الدين الحق، ولا يقول أحدهم: إنه أرسل للناس كافةً أو إنه خاتم الأنبياء والمرسلين.

أمَّا محمد (ﷺ) فيقولها فتصدِّق القرون كلامه. ماكان حديثًا يُفْتَرىَ؛ ولكن تصديق الذي بين يديه وهدى ورحمة للعالمين..وإن أحـدًا عرف الرسـول (ﷺ) في زمـانه مـن عدو أوصديق إلا وأسلم في ضميره أن الخلق المحمدي لا يرقى إليه مطعن..!

لقد حدَّد رسول الإسلام الغاية الأولى من بعثته والمنهاج المبين في دعوته بقوله(ﷺ) في حديثه الشريف:«إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»؛ فكأنَّ الرسالةَ التي غيَّرت مجرى التاريخ وبذل صاحبها صلى الله عليه وسلم جهدًا كبيرًا في مدِّ شعاعها وجمع الناس حولها لا تنشد أكثر من تدعيم فضائلهم وإنارة آفاق الكمال أمام أعينهم حتى يسعوا إليها على بصيرة:
﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّه عَلَى بَصِيرَة أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّه وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾( يوسف: 108).

كان محمد (ﷺ)يمتاز بسمو خلق لا يحيط بوصفه البيان، وكان من أثره أن القلوب فاضت بإجلاله، وتفانى الرجال في حياطته وإكباره، بما لا تعرف الدنيا لرجل غيره، فالذين عاشروه أحبوه إلى حد الهيام ولم يبالوا أن تندق أعناقهم ولا يخدش له ظفر! و كانت بعثته (ﷺ) إيذانًا ببدء ثورة شاملة، حررت الإنسان والزمان والمكان، ورفعت عنها إصر عبوديات كثيرة كانت تعتاق انطلاقها جميعًا؛ فأخذ الإنسان حريته بيده، وصاغ هوية زمانه ومكانه صياغة جديدة فجرت عناصر الخير في كل شيء كان احتجاجًا قَبْليًًا على كل عناصر الخير؛ فوقف الإنسان على ربوة التاريخ يسدد خطواته نحو الأشرف والأفضل، ووقف المكان ليلهم ويحتضن وينبت الأروع والأنصع، ووقف الزمان ليفسح ويتيح للأكمل والأشمل..!

كان الإنسان - قبل محمد (ﷺ) - يتكيء في قناعته على مسلّمات كثيرة؛ فأطلق محمد (ﷺ) فيه ثورة العقل وثورة الجسد وثورة الروح؛ لقد زلزل (ﷺ) هذا الإنسان بثورة العقل معاقل الخرافة، وأسوار التجمد، وحوائط الانغلاق؛ فأطلق لفكره العنان يجول في أبهاء الزمن والتاريخ والكون والثقافات، يشيد من بعضها ما يراه موائماً لطبائع التطور، ويشيد على أنقاض بعضها الآخر ما يراه عاجزًا عن مواكبة الطموح البشري في اندفاعه مع تيار التواصل الكوني والإنساني..!

وزلزل هذا ا لإنسان بثورة الجسد مقاصير العنت، ومناطق الخوف، وأحراش الرهبوت؛ فأطلق للإبداع الإنساني آفاق طموحه المشروعة، وأمّن لخطوات التاريخ على طرائق الخير والحق، وجعل من (القيمة) وحدها مقياس التوافق مع الوجود الإنساني النبيل الذي يرفض أن يشارك في مهزلة الأعلى والأدنى على ضوء مقاييس البطش والإرهاب.. كما زلزل (ﷺ) هذا الإنسان أخيرًا بثورة الروح تاريخ الهمجية على الأرض؛ فأطلق لأشواقه العليا أن تلوذ بمناطها الطبيعي، وأن تستريح من قرّها إلى دفء الألوهية.

وهكذا يتوافق إيقاع ثورات العقل والجسد والروح تلك التي أطلق شرارتها الأولى محمد (ﷺ) لتؤلف في النهاية هذا الكون المسلم الذي يرفض إنسانه أن يوجد على الأرض بليدًا بلا عقل، وكاسدًا بلا فعل، ومعطلاً بلا أشواق، وهذا هو حجم التحول الذي قاده هذا الإنسان النبي(ﷺ) في أحلك فترات التاريخ قتامة وجهامة وانطفاء..!
كان تحرير محمد (ﷺ) للإنسان تحريرًا مقصودًا وقَبْليًا؛ ولذلك فإن حجم هذا التحرير يعطي قناعة أن كل الجراح التي نزفت من محمد (ﷺ) كانت جراحًا حميمة إلى قلبه؛ لأنها نزفت دمًا هنا ورقَأَتْ دمًا بلا حدود هناك، أعنى أن كل قطرة دم أو عرق نزفت من جبين محمد القائد الرسول (ﷺ) قد استحالت في تاريخ الإنسان على امتداد هذا التاريخ إلى يد برة حانية تمسح عن جبينه طوفان الدم وشلال الدموع..!


إن الجراح التي نزفت هناك من جبين محمد (ﷺ) وهو يعدل مسار الكون والتاريخ والإنسان، هي التي تتيح لهذا الإنسان أن يقبض في رحاب الكون والتاريخ على إنسانيته بيديه، غير غارق في طوفان الرجعة الذاهلة إلى حرب الأعراق الفاجرة، أو إلى انحناء الجذع الإنساني أمام حجم حجري بليد، أو إلى انصياع في مسارب اللذات غير مبدع ما يبقى على التاريخ عنوانًا على عظمة البشر ومجد الإنسان في الأرض!

والله عزَّ وجلَّ عندما بعث محمدًا (ﷺ) لهداية العالمين، ضمَّن رسالته الأصول التي تفتق للألباب منافذ المعرفة بما كان ويكون..! والقرآن الكريم الذي أنزله على قلبه هو كتاب من ربٍّ العالمين إلى كلِّ حيٍّ؛ ليواجهه إلى الخير؛ ويلهمه الصواب والرشاد..؛ فلم يكن محمد (ﷺ) قط إمامًا لقبيل من الناس صلحوا بصلاحه، فلما انتهى ذهبوا معه في خبر كان، بل كان قوة من قوى الخير، لها في عالم المعاني ما لاكتشاف البخار والكهرباء في عالم المادة.

وإن بعثته لتمثِّل مرحلة من مراحل التطور في الوجود الإنساني. كان البشر قبلها في وصاية رعاتهم أشبه بطفل محجور عليه؛ ثم شبَّ هذا الطفل عن الطوق ورشح لاحتمال الأعباء وحده ! وجاء الخطاب الإلهي إليه - عن طريق محمد (ﷺ) - يشرح له كيف يعيش في الأرض،وكيف يعود إلى السماء. فإذا بقي محمد (ﷺ) أو ذهب فلن ينقص ذلك من جوهر رسالته.
إن رسالته السمحة تفتيح الأعين والآذان؛ وتجلية البصائر والأذهان.. وذلك مودع في تراثه الضخم من كتاب وسنة !

لم يُيْعَثْ محمد (ﷺ) ليجمع حول اسمه أناسًا قلّوا أو كثروا، وإنما بُعِثَ صلةً بين الخلق والحق الذي يصبح به وجودهم، والنور الذي يبصرون به غايتهم.

فمَنْ عرف في حياته الحق، وكان له نور يمشي به في الناس؛ فقد عرف محمدًا (ﷺ) واستظل بلوائه وإن لم ير شخصه الكريم ويعيش معه (ﷺ).﴿أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورًا مبينًا فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطًا مستقيمًا..﴾
(النساء:174-175).
فإذا رأيتَ بعض الناس يتناسى دروس الأستاذ؛ ويتشبث بثيابه وهو حي؛ أو يتعلق برفاته وهو ميت؛ فاعلم لامحالة أنه طفل غرير! ليس أهلاً لأن يخاطب بتعاليم الرسالة بله أن يستقيم على نهجها..!

كان محمد(ﷺ) رجل إيمان امتحنه البلاءُ طويلاً قبل أن يفييء عليه ربًّه بالنصر المؤَزَّر.. هذالنصر ما كان متوقعًا أو شبه متوقع لذلك الداعي إلى الله في عاصمة الأوثان والأزلام!

إن نبي الإسلام (ﷺ)لم ينصِّب نفسه (بابا) يهب المغفرة للبشر؛ ويمنح البركات؛ وربما صكوك الغفران! إنه لم يفعل ذلك يومًا ما؛ لأنه لم يشتغل بالدجل قط!!

إنه يقول لك: تعال معي؛ أو اذهب مع غيرك من الناس لنقف جميعًا في ساحة ربِّ العالمين نناجيه:
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾(الفاتحة: 6-7). فإذا رضي عنك هذا النبي - دعا الله لك..! وإذا رضيت أنت عنه ووقر في نفسك جلال عمله وكبير فضله؛ فادع الله كذلك له؛ فإنك تشارك بذلك الملائكة الذين يعرفون قدره؛ ويستزيدون أجرك: ‏﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً. ﴾ (الأحزاب : 56).

فليس عمل محمد (ﷺ) أن يجرك إلى الجنة؛ وإنما عمله أن يقذف في ضميرك البصر الذي ترى به الحق! ووسيلته إلى ذلك كتابٌ لا يأتيه الباطل من بين يده ولا من خلفه، مُيَسَّر للذكر، محفوظ من الزيغ.. وذاك سر الخلود في رسالته...!

مَنْ بعد ذلك يمكنه إغلاق عينيه دون إبصار هذا (النور)؟! وأحسب أن مَنْ يمكنه القيام بذلك يضير عينيه ولا يضير هذا (النور)..

ومَنْ بعد ذلك يستطيع أن يغلق عقله وضميره دون (الحق)؟ فمّنْ يفعل ذلك يضير عقله وضميره ولا يضير (الحق)! فالنور منيفة للرائي لا للمصباح! والحق منفعة وإحسان إلى المهتدى به لا إلى الهادي إليه..

ومن آفة تهدر العقول البشرية كما يهدرها التعصب الذميم الذي يفرض عى أذان أصحابه وسراؤهم ما هو أسوأ من العمى لذي البصر! ومن الصم لذي السمع! لأن الأعمى قد يبقى بعدُ فاقدًا للبصر إنسانًا.. والأصم قد يبقى فاقدًا للسمع أيضًا (إنسانًا)..!

أما من اختلَّت موازين عقله أو موازين وجدانه حتى ما يستطيع التمييز بين الخبيث والطيب؛ فذلك ماليس إنسانًا بالمعنى المقصود للكلمة.. وإذا ما حاولنا تأمل قيمة (الفعل) الذي منحه النبي محمدٌ (ﷺ)لتحرير المكان أيضًا؛ لوجدنا محمد ًا المبعوث رحمةً للعالمين جاء محررًا لجبين الأرض من أن تصبح مجرد صنم أو مجرد مناط لصنم!!

إن ذلك يعني أنه (ﷺ) قد حررها من أن تكون بوضعيتها المكانية غير قادرة على الإلهام والعطاء؛ لأن صنمية الأشياء تعني رفض تعقل الأشياء؛ فالصنم يتطلب عقلاً صنمًا لا يفكر؛ لأنه إذا تحرك بالفكر رفض على الفور مقولة أن يخرّ لحجرة الصنم..

فإذا حرَّر محمد (ﷺ) هذا التاريخ الطبيعي الذي نسميه الأرض، أونسميه المكان من أن يكون صنمًا أو مناطًا لصنم؛ فإن ذلك يعني أن أعطى هذا التاريخ الطبيعي اقتداره الطبيعي على أن يلهم ويحرِّك ويستثير، بمعنى أن الأرض بهذه الوضعية تصبح مجالاً لتأمل الفكر، وطموح العقل، وجسارة الاستشفاف، وما دام ذلك كذلك؛ فإن رحلة العروج الإيماني قد تبدأ من نبتة طالعة في الصخر، أو نبع متدفق في الرمال، أو شفق هائم على صدر الأفق، أو مضيق متعرج بين جبلين.. وهنا لا بد أن نفطن إلى نداءات محمد (ﷺ) المتواصلة التي كان يعقد فيها صداقة كونية بين مظاهر الطبيعة وإنسان هذه الطبيعة؛ حتى لنراه يدمع وهو يفارق مكة، ونراه ينحني على الزرع الطالع في تعاطف حميم، ونراه يُقبِّل الحجر الأسود، ونراه يميط الأذى عن الطريق..!

إن هذا الفعل الرسولي ليس فعلاً عشوائيًا يمتد من داخل الذات إلى محيط الإطار في عفوية ساذجة ولكنه يمتد من داخل الذات إلى محيط الإطار ليشكل هذا التواصل الوجداني بين الكون والإنسان، ربما ليستحيل الإنسان في الكون إلى طاقة متلقية وواهبة تعطي الكون معنى أن كان ومعنى أن يكون، وهذه هي قيمة الفعل في تجاوب النقائض والأضداد! فهل يمكن أن يكون محمد (ﷺ).. ذلك(البشع) الذي يذكرهه الآخر والمختلف في العقيدة - في إعلامه وفي مناهج مدارسه وجامعاته..؟! هل يمكن أن يكون هذا الرجل/ النبي الرسول؛ الذي جاء لهداية الإنسانية كافةً مجهولاً عند الغرب و الشرق، ويدين بديانته خمس سكان الأرض؟!!

وهل يعقل أن تغيب شخصية هذا النبي الكريم عن البعض، وهو الذي لم يترك جانبًا منه خاص أو عام، وفي أصغر تفصيلاته، إلا ملأ الكتب والمعاجم، واستوطن الصدور وملأ الأفاق؟!!

هل يعقل ألا يعرف علماء الغرب ورجال دينه قصة هذا الرجل الرحمة المهداة للعالمين، وما حمله للبشرية من جديد وتجاوز للقديم، ومن ورائه قصة أمة وقصة دين؟!!

حسبنا الآن ذكر بعض المواقف والمشاهد التي ترصد العلاقة التي أفرزها مجيئه الكريم على التقارب بين أتباع عيسى عليه السلام وأمة محمد(ﷺ) وهي محطة نخالها إحدى هذه التعبيرات الإنسانية، لهذا الرجل الصالح عليه الصلاة السلام ومحبته؛ للتعارف والتقارب بين الأمم والشعوب، وبين الثقافات والأديان. وإلا لما كانت سورة آل عمران -ثاني أكبر السور القرآنية- تحمل اسم أسرة المسيح عليه السلام، ثم سورة أخرى تحمل اسم العذراء -السيدة مريم عليها السلام- تشريفًا وتكريمًا لها، ولن تجد في المقابل اسم فاطمة ولا خديجة ولا عائشة ولا الحسن ولا الحسين، كعناوين بارزة أو ذكرًا مباشرًا، وهم من البيت النبوي وأقرب الناس إلى الرسول الكريم (ﷺ)!!

وقد ذكر القرآن الكريم عيسى عليه السلام صراحةً بالاسم خمس وعشرين مرة، بينما لم يذكر محمد(ﷺ) إلا خمس مرات! ولن تجد أحداثًا خاصة وعصيبة مرّ بها الرسول الكريم (ﷺ) من موت أم وأبناء وبنات وزوجة وجدّ وأعوام حزن وفراق، وسوف تجد بالمقابل سردًا تفصيليًّا لمولد المسيح عليه السلام من قبل الإنشاء إلى حد الرفع!!

هذا القرآن الكريم الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم جعل من النصارى أقرب الناس إلى المسلمين:
﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾(المائدة: 82).

فهذه الدعوة القرآنية السمحة توكيد مباشر على خاصية الرهبنة والرحمة والمحبة والتواضع في قوم عيسى عليه السلام، ودعوة للعدل المتبادل بين قوم عيسى عليه السلام، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم حيث تسطّر المودة أحلى إطار إنساني لها.

وسنتجاوز آيات التبجيل والتمجيد والتكريم للمسيح وأمه الصديقة التي ملأت أرجاء القرآن، لترسو سفينتنا على هذا التعظيم الذي حمله هذا النبي الكريم نحو المسيح، بأن تنَّبأ له بالعودة إلى الأرض في آخر الزمان؛ ليحمل مشعل الإسلام، ويواصل المشوار دفاعًا عن المؤمنين.

وحسبنا أيضًا لقاءً عجيبًا جمع هذا الرسول (ﷺ)مع نصارى نجران، حيث جاءوا إلى المدينة والرسول الكريم (ﷺ)في قوته وبين أهله وذويه، وجاء القوم من بلادهم وهم ضعاف ينظرون ماذا سيفعل بهم هذا الرسول الذي لا يؤمنون ببعثته؟!

ودخل ستون فردًا على الرسول (ﷺ) في مسجده، وهم يلبسون أحلى ما رأى الناس حتى قيل لم نرَ وفدًا مثلهم، ولم يغضب الرسول (ﷺ) لهذا الاستعراض وهذه الجلبة وهو في محرابه، بل استقبلهم داخل مسجده وبجانب محرابه، وفي موطن عبادته وتوحيده.

ولما حان وقت صلاتهم، اتجهوا نحو المشرق، وأرادوا أداءها في المسجد، وفي اتجاه مخالف لاتجاه المسلمين.. تثليث وصلبان وصلاة مغايرة في مقابل التوحيد وصاحب الرسالة، ورفض الصحابة هذه الإثارة، ولعلّ البعض رآها استفزازًا؛ لكن الرسول الكريم (ﷺ) قَبِلَ ذلك، وطلب إلى أصحابه الأخيار رضوان الله عليهم السماح للضيوف الكرام بأداء صلواتهم في المسجد، على مرمى عين صاحب الرسالة؛ احترامًا لعيسى وآل عيسى وأتباع عيسى عليه السلام!

ولقد بقي هذا الوفد النصراني يسكن المسجد لأيام، في ضيافة النبي (ﷺ)، يأكلون ويشربون ويصلون وينامون، دون إزعاج أو مضايقة أو منع أو تنديد.. هذا هو محمد (ﷺ).. وهذه هي سماحته!

كان النبي الكريم (ﷺ) يعود المرضى من غير المسلمين، ويزور جيرانه، ولو لم يكونوا من أصحاب ديانته، ولا يبخل على الإحسان إلى محتاجهم. وقد وقف ذات يوم عند مرور جنازة احترامًا لجثمان الميت، فقيل له إنها جنازة يهودي!! فقال عليه الصلاة والسلام: «أليست نفسًا».. تذكيرًا بأصل الخِلقة وتكريم الخلق على اختلاف مشاربهم وأجناسهم وأديانهم وثقافاتهم.

قال المصطفى (ﷺ): «يا أيها الناس.. إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى(1): إن أكرمكم عند الله أتقاكم ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: فيبلغ الشاهد الغائب»(2)؛ولن يقف هذا النبي الكريم (ﷺ) موقف المحايد أو الشامت أو الداعي إلى الخلاص، ممن رفض دينه وعايشه في وطن، علت فيه قيم المواطنة على انتماءات العقيدة والجنس، وغلبت فيه لغة حقوق الإنسان مهما غربت أو شرقت وجهته الدينية؛ فكان دستور المدينة تعبيرًا فريدًا وإفرازًا نوعيًّا وإنشاء قانونيًّا جديدًا، جمع تحت بنوده أمة محمد والأمم الأخرى التي تساكنه نفس الوطن لها ما لهم وعليها ما عليهم.

ولن يتوقف هذا المدد الإنساني الذي حمله محمد (ﷺ) بين دفتي رسالته، بل تجاوزه إلى اعتبار ديني غليظ، يصبح فيه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم سندًا روحيًّا مباشرًا لأهل الديانات الأخرى، إذا طالهم ظلم أو حيف أو انتقاص:«ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أوأخذ منه شيئًا بغير طيب نفس؛ فأنا حجيجه يوم القيامة».

هذا هو محمد (ﷺ)..!

لقد كان في كتاب النبي الكريم إلى أهل نجران: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾(آل عمران:64)؛ فهذه الآية بمفردها تبني علاقة الاحترام والتعارف بين الأديان والثقافات والتي حملها رجل جاء رحمة للعالمين..!

إن الأريب يكاد يتفهَّم الحملة الشعواء التي ينظمها بعض الفئات الغربية حاملة لواء الكراهبة على أطهر وأقدس رموز الإسلام.. محمد(ﷺ) نبي الرحمة, رسول الإنسانية؛ تحقيقًا لأوهام ومزاعم لن تتحقق على أرض الإسلام والمسلمين حائط الصد الصلد والصلب الأخير ضد محاولتهم إقناع كل ثقافات العالم بتبنّي العولمة أو قيم الحضارة المادية؛ أبرز مظاهرها السلبية: عبادة المال؛ وزيادة إنتاج السلع والمواد الاستهلاكية؛ ونشر الثقافات السينمائية والتلفازية الرديئة التي تمجّد العنف والجنس والتهالك على كل المتع والشهوات ورفض فكرة البعث والنشور والإيمان بل واحتقارها؛ بعدما بدا أن الصين واليابان وتايلندا والفليبين وغيرها، تميل الآن إلى هذا النموذج الحضاري الغربي؛ فجماهيرها مجذوبة إليه وإلى ما تراه على شاشات التلفزيون من بريق لامع وحريات جنسية وغير جنسية في مجتمعات أوروبا وأمريكا.

غير أن المقاومة الوحيدة لمثل هذه المفاهيم الغربية، تتصاعد من جهة الإسلام؛ فالإسلام باستعصائه على الحضارة الغربية، إنما يحفظ أصلاً جوهريًا ليس فقط بالنسبة للعرب وللمسلمين، بلْه للبشرية أيضًا؛ فأفكار مثل: البعث واليوم الآخر والتنزيه والإيمان النقي الصافي الذي يتجاوز ماديات الحضارة الغربية أفكار عظيمة ولا ينبغي أن نستهين بها.

إن مقاومة الإسلام والثقافة الإسلامية عمومًا لأصنام الحضارة الحديثة ومعبوداتها كالمال، والسلطة،والجنس،والعنف،والضجيج،والموضات العابرة التي ما إن تظـهر حتى تختفي..؛ ضد تيار الشطط في الحداثة والغلوّ في البـحث عن النجاح المادي، والفعاليةالاقتصاديةوالمتعة الاستهلاكية..الإسلام المقاوم ضد احتقار كل حياة روحية تتجاوز الماديات.. فهذه المقاومة الإسلامية يمكن أن تكون حظًا للبشرية الآن.
إن قوة الإسلام تكمن في مقاومته وقوته واستعصائه على الاحتواء أوالتحييد؛ لاحتوائه على عناصر البقاء والخلود.. وهذا وحده كفيل بتفسير حالة الهستيريا التي تعتري البعض حينما يستبقون الهجوم وشن الحملات البذيئة على رسول الإنسانية المبعوث رحمة للعالمين كافة.

الغرب يقودة الآن تيار يعيش حالة من الإلحاد العملي. وإيمانه التقليدي يموت بفعل عوامل عديدة. ولم يبق في الساحة إلا الإسلام!
وهذا لا يعفي المسلمين من مسؤولية التخلف الحضاري، الناجم عن الانحراف عن المنهج؛ فالمسلمون سرت إليهم لوثات التعلق بالقشور والمراسم. وردتهم رذائل الضعف والجهالة إلى ما أشبه بما كان يسود اليهود والنصارى على عصر النبوة والخلافة الراشدة.

وقلة يسيرة من المسلمين هي التي بقيت إلى اليوم تغالب الجاهلية وتتشبث بالحق. وإذا كان ما يعين على الأمل أن الإسلام ظلَّ من الناحية العلمية محفوظًا في مصدريه الجليلين: الكتاب والسنة؛ فإن هذا العلم المصون لا يغني أبدًا عن (العمل).

على أن الذين يعملون للإسلام عملاً صحيحًا يلقون مقاومة عنيفة من شتى الجهات التي قاومت امتداده منذ أكثر من خمسة عشر قرنًا؛ فلم تبرد عداوتها له يومًا!!

وقد يسأل سائل: هل العالم اليوم بحاجة إلى هذا الإسلام؟! ونجيب : إذا كان العالم بحاجة إلى أن يعرف الله تعالى؛ ويستعد للقائه؛ ويقدِّم ما أدَّى في هذه الدنيا..؛فلابد له من (الإسلام)! إن الارتقاء المادي, لايغني فتيلاً عن التقيُّد بهذه الحقائق الكبرى.

فقد يقال: لكن من الناس مَنْ لايؤمن بإله قائم أو يوم آخر! ومنهم مَنْ يؤمن بذلك على نحو غير ما جاء به الإسلام! فدعوا الناس وما يرون..
ونرد: فلير الناس ما يشاؤون! ولكن ليس من حق العميان أن يخلعوا عينيَ المبصر! أو يضيِّقوا عليه الخناق؛ لأنه يرى ما لايرون!

فليدعوه يمشي بهدي بصره؛ وليدعوه كذلك يصف ما يرى في طريقه وما يتوقع. فمَنْ تبعه من غير استكراه؛ فلينطلق معه وإلا فليدعه؛ وليرفع من أمامه العوائق..؛ وذلك مما يبغيه الإسلام فحسب..

إن المبطلين يكرهون الإسلام؛ لأنه (حق) ناطق .. يجادل عن نفسه .. ويستعلن بما فيه.. ويرفض أن يتوارى أو يصمت.

هذه الخاصة في الإسلام.. خاصة: إحقاق الحق وإبطال الباطل..؛ أزعجت أعداءه وجعلتهم يختلقون له التهم.

فإذا رفض المهادنة؛ فهو مهاجم.. وإذا أبى أن يموت أمام كيد الخصوم؛ فهو انتشر بالسيف والإكراه !!

وذلك سر الخرافة التي راجت أن الإسلام انتشر بالسيف.. والإسلام إنما امتشق الحسام لينجة به من غوائل الرعاع والقطاع. ولو ترك من غير ترويع ما أثقل عاتقه برمح؛ ولااكتفى من السنان باللسان..؛ نعم إنه كان في هذه السبيل صارمًا!

وهل ينتظر منه إلا ذلك في ملاقاة خصوم يجرون وراءهم كبرياء القرون الطوال وتعصبها؟ وضلالات تحتمي وراء غايات متشابكة من الرجال والسلاح؟

فلولا هذه الصرامة ما بقيت أصولا الإسلام العلمية والنفسية سليمة إلى يومنا هذا؛ فإن الديانات التي ضعفت قبله؛ أفلح أعداؤها في جرها عن أصولها جرًا شنيعًا؛ فلم تعد إلى قواعدها سالمة...!

أمَّا الإسلام؛ فإنك واجده اليوم, ولو في كتابه..إن لم يكن في أصحابه..
إننا نستعظم الأحداث في تاريخ بني الإسلام بمقدار ما فيها من فتوح الروح؛ لا بمقدار مافيها من فتوح البلدان.. فجائز أن يقع في الدنيا طوفان أو زلزال فيتصل به من أحداث الزحوف والفتوح ما يبدّل في التاريخ ويبتعث دوافع الشعوب..

أما غير الجائز فهو أن تنفتح للإنسان آفاقًا جديدة من عالم الضمير بغير عظمة روحية يوحيها الإيمان وبغير رسالة باطنية تسبق هذه الظواهر التي تهول الأنظار!

لقد فتح الإسلام ما فتح من بلدان؛ لأنه فتح في كل قلب من قلوب أتباعه عالمًا مغلقًا تحيط به الظلمات؛ فلم يزد الأرض بما استولى عليه من أقطارها؛ فإن الأرض لا تزيد بغلبة سيُد على سيّد أو بامتداد التخوم وراء التخوم ولكنه زاد الإنسان أطيب زيادة يدركها في هذه الحياة؛ فارتفع به مرتبةً فوق طباع الحيوان السائم ودنا به مرتبة إلى الله تعلى.. يدين بهذه الحقيقة كل من يدين بحقيقة في عالم الضمير..؛ فمن أنكرها؛ فإنما ينكر تقدم الإنسان كثيرًا أو قليلاً في هذه الطريق.


والحمدلله ربّ العالمين...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق