الثلاثاء، 31 مارس 2015

لو أقسم على الله لأبرَّه ..!

  

     د.عبدالهادى مصباح    ٤/ ١١/ ٢٠٠٧   المصري اليوم 

كان عبدالله بن المبارك من السلف الصالحين، ومن أفضل رواة الحديث وإمام أهل السنة في خراسان، وكان ابن المبارك من الربانيين في العلم، الموصوفين بالحفظ، والمذكورين بالكرم والزهد، قال عنه ابن حنبل: لم يكن أحد في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه، وقال عنه سفيان بن عيينة: ما رأيت للصحابة فضلاً على ابن المبارك إلا بصحبتهم للنبي «ﷺ»، وكان يحج عاما وينفق على أصحابه من الفقراء والمساكين أثناء رحلتهم للحج، ويخرج للجهاد في سبيل الله في العام الذي يليه، وكان ابن المبارك من الأثرياء، فقد كان ينفق على الفقراء في كل عام أكثر من مائة ألف درهم في بلاد مختلفة، وحين عوتب على أنه يفرق أمواله في البلدان المختلفة ولا يخص بها أهل بلده قال:

إنني أعرف مكان قوم لهم فضل وصدق في طلب الحديث فأحسنوه، وقد احتاجوا، فإن تركناهم ضاع علمهم، وإن أعناهم بنوا علمهم لأمة محمد «ﷺ»، ولا أعلم بعد النبوة أفضل من طلب العلم، هكذا فهم ابن المبارك العالم الزاهد الوظيفة الحقيقية للمال في الحياة الدنيا، وقدر قيمة العلم والعلماء للإسلام والمسلمين.


وسئل ابن المبارك عن الكبر فقال: أن تزدري الناس، وسئل عن العجب فقال: أن تري أن عندك شيئا ليس عند غيرك، وسئل عن خير ما أُعطي الإنسان فقال: غريزة عقل، ثم ظل يسأل: فإن لم يكن؟ فأجاب: حسن أدب، فإن لم يكن؟ أجاب: أخ شقيق تستشيره، فإن لم يكن؟ قال: صمت طويل، فإن لم يكن؟ قال: موت عاجل، وكان ابن المبارك يكثر الجلوس في بيته فقيل له ألا تستوحش؟ فقال: كيف أستوحش وأنا مع النبي «صلي الله علىه وسلم» وأصحابه.


ومع وجود كل هذه الصفات والخصال في ابن المبارك التي تجعله في مصاف أولياء الله الصالحين، فإننا نراه في قصة توضح لنا تواضع العلماء وإيمانهم السلوكي الذي يتعدي القول إلى  الفعل من خلال القصة التإلى ة: يروي أن المطر تأخر نزوله حتي أوشكت الأرض على الجفاف، فهب المسلمون ليصلوا صلاة الاستسقاء في المسجد الحرام وكان من بينهم عبدالله بن المبارك، وانصرف المسلمون من المسجد بعد الصلاة ولم يكن في السماء سحابة واحدة تبشر بنزول المطر، وتأخر عبدالله في المسجد وبينما هو منصرف مع المنصرفين لمح غلاماً أسود يرتدي قطعتين من الخيش ائتزر بإحداهما، ووضع الأخري على كتفه..

 ويروي ابن المبارك لصاحبيه ما حدث قائلاً: فكأنما تعلقت به عيناي فلم أستطع أن أصرفهما عنه، فرأيته ينسل من بين صفوف الناس متجهاً نحو الكعبة، فتبعته دون أن أدري لماذا تبعته، وأخذت أطوف مع الطائفين خلفه، وفجأة انتقل إلى  أحد الأركان فانتبذ له مكاناً خفياً وأنا أرقبه دون أن يشعر بي، ثم أخذ يرفع يديه داعياً الله فسمعته يقول: إلهي.. ما كنت أدعوك لولا رقة غلبتني على عبادك هؤلاء الذين خرجوا يستسقونك بألسنتهم، وهم يحملون في قلوبهم ما من أجله منعت عنا غيث السماء،

 اللهم إن اغترارهم بحلمك، ورجاءهم في رحمتك قد أنسياهم الخوف من غضبك وعذابك، اللهم فاجعل هذا لهم لا علىهم، يا واسع الرحمة.. يا غنياً عن العالمين يإ إلهي.. إني ما دعوتك يوماً لنفسي إلا استجبت لي فضلاً منك وكرماً، وهاأنذا أدعوك إلى وم لعبادك هؤلاء من أمة نبيك وحبيبك محمد «صلي الله علىه وسلم»، فإن لم تستجب لي خشيت على نفسي من الاغترار بأنك اصطفيتني وحدي عبداً لك من دونهم أجمعين.. إلهي..يا حليماً ذا أناة، يا من لا يعرف عباده منه إلا الجميل، إن كنت تحبني كما أحبك فاسقهم الساعة..الساعة، ولم يكد يردد الغلام كلمة الساعة حتي تجلت السماء علىه بالغمام، وهطل المطر غزيراً،

 ولم يستطع عبدالله بن المبارك - العالم الورع الزاهد الذي تتحدث بعلمه وتقواه الأمم - أن يملك دموعه آنذاك، فأخذ يبكي حتي استمع الغلام إلى  بكائه ونحيبه، فالتفت وراءه فرآه، فلم يلبث أن انتفض مذعوراً كأن عقرباً قد لدغه، وانطلق يعدو مسرعاً حتي خرج من المسجد، وتبعه ابن المبارك من على البعد حتي علم أنه غلام لتاجر كبير يدعي عبدالمولي المدني، وأن اسمه ميمون، فعرض علىه أن يشتريه، فأخبره التاجر أنه غلام صالح لا يصلي إلا في الكعبة، ولكنه ضعيف لا يصلح ولا يقدر على شيء، ولكنه فقط يتبرك به،

فرد علىه ابن المبارك: لا بأس فأنا لا أريد منه خدمة ولا منفعة، وأضاف التاجر يصارحه: وهو على الرغم من صلاحه، إلا أنه عبد شهواني فيم يتعلق بالنساء، ولا يؤتمن على الحرمات، فلما بدت الدهشة على وجه ابن المبارك، قال له التاجر: إن شئت دعوت لك الجارية السوداء «زيتونة» التي دأب على مراودتها عن نفسها حتي شكته إلى ، وانتابت الدهشة ابن المبارك وصمم على معرفة تفاصيل قصة هذا الغلام ميمون، وهي التي سوف نسردها إن شاء الله في المقال القادم.

دهش الإمام العالم عبد الله بن المبارك ولم يصدق ما قاله له التاجر مالك العبد ميمون من أنه عبداً شهوانياً فيم يتعلق بالنساء ، ولا يؤتمن على الحرمات ،وقد دأب على مراودة الجارية السوادء " زيتونة" عن نفسها حتى شكته إلى ه، وتحير بن المبارك إذ كيف يكون ذلك وقد رأي بعينيه وسمع بأذنيه ما لميمون من كرامة عند ربه فقد استجاب الله عز وجل لدعائه في الكعبة في التو واللحظة وسقط المطر بمجرد أن انتهى من الدعاء ؟!

ولم يصدِّق ابن المبارك هذا الكلام عن الغلام واعتقد أن في الأمر شيء ، وصمم على شراء الغلام بعشرين دينار كما طلب صاحبه .

وفي الطريق سأله ميمون عندما رأى فرحته بشرائه : سيدي .. ما حملك على شرائي وأنا ضعيف البدن كما ترى لا أطيق الخدمة ، وقد كان لك في غيري سعة ؟

فأجابه ابن المبارك : بل أنت أخي يا ميون ، وأنا لن استخدمك ، وسأشتري لك منزلا ، وأزوجك وأخدمك أنا بنفسي ! فبكى ميمون قائلا : لا حول ولا قوة إلا بالله ، وظل يرددها قائلا : لم تفعل هذا إلا وقد عرفت سري فأخبرني بالله علىك ماذا عرفت عني ؟ فرد ابن المبارك : عرفت أنك مجاب الدعاء ، فسأله ميمون : هل سمعت دعائي أمس في المسجد الحرام ؟ فرد ابن المبارك : نعم ، فسأله ميمون: وإلى أين أنت ماض بي الآن ؟ فرد ابن المبارك : إلى بيت الفضل بن عياض وهناك موجود معه سفيان بن عيينه ، فسأله " ميمون ": وهل أطلعتها على سري ؟ فأجاب ابن المبارك : بل أخبرتهما بسر الله فيك ، فرد ميمون ، سامحك الله .. وطلب منه أن يدخلا المسجد الحرام أولا لكي يصلي ميمون ركعتان علىه من البارحة ، وبعد أن انتهى ميمون ، طلب منه ابن المبارك أن يقوما إلى دار الفضل لأنه ينتظرهما ، فرد ميمون : يا سيدي .. ينتظرني هنا أمر أكبر من لقاء الفضيل، فهل لك أن تحتسب العشرين دينار التي دفعتها ثمنًا لي؟

فسأله ابن المبارك : تعني أنك تريد مني أن أعتقك ؟ فرد ميمون : كلا يا سيدي فسيمنعني الله عنك، فاندهش ابن المبارك وسأله : ماذا تعني ؟ فرد ميمون: الانصراف !  فسأله ابن المبارك في استغراب :إلى أين؟ رد ميمون : إلى الآخرة.. الساعة، فقال له ابن المبارك : كلا .. كلا لا تفعل يا ميمون .. دعني أُسر قليلا بك.. وأستمد من نورك .. وأنل من بركاتك ، ورد علىه ميمون : لا مناص يا سيدي.. فما عدت أحتمل الحياة .. إنما كانت تطيب لي الحياة حيث المعاملة سر  بيني وبين ربي سبحانه وتعالى ، فأما إذا ما اطلعت علىها أنت وصاحباك ، فسوف يطلع علىها غيركم ، ولا حاجة لي في ذلك .

وهنا طلب ابن المبارك منه أن يخبره عن الطريق الذي سلكه إلى الله لكي يصل إلى ما وصل إليهمن كرامة ، فقال ميمون: غادرت البصرة دون أن يعلم ابي أو أحد من أهلي وحللت مكة فاتفقت مع رجل من أهلها، فزعم أني عبده ، وباعني للتاجر الذي اشتريتني منه، واندهش ابن المبارك وسأله لماذا فعلت ذلك ؟ فأجاب : لأقهر نفسي وأذيقها المذلة والهوان، ولكي لا أعبأ بالدنيا، وأكون من الثلاثة الذين يدخلون الجنة أول الناس كما جاء في الحديث الشريف وهم : الشهيد ،وعبد مملوك لم تشغله الدنيا عن طاعة ربه، وفقير ذو عيال، ويكمل ميمون: ولما سمعت هذا الحديث وأنا في البصرة قلت : لأكون أنا العبد المملوك الذي لم يشغله رق الدنيا عن طاعة ربه ، وقد تحملت من سيدي في البداية ألواناً من المتاعب والمشاق ،وصنوفا من المحن  التي كابدتها صابرا محتسبا غير متبرم ولا متضجر لوجه الله تعالى ، ولما سأله ابن المبارك عن مراودته للجارية السوداء ، أجاب ميمون : كانت محنتي هذه هي مفتاح الصلة بيني وبين الله عز وجل ، فقد ذلل لي بعدها كل صعب ، وانكشف لي بعدها كل حجاب  فقد كنت أنا وميمونة وحدنا في حجرتها في نصف الليل والجميع نيام ، وراودتني عن نفسها ،  فقلت لها إنني أخشى الحي الذي لا ينام .. استري نفسك يا زيتونة – وكان ذلك إسمها – واعلمي أني لن آتي الحرام أبدا ولو قطعتني قطعا ، فهددتني وأقسمت إن لم أستجب لها لتقولن لسيدها إنني قد راودتها عن نفسها ، فقلت لها :افعلى ما شئت ففعلت ، فاندهش ابن المبارك وسأله : ولكن لماذا اعترفت على نفسك ولم تكذب الجارية ؟ فرد ميمون أردت أن أصون سمعتها وعرضها عسى أن تهتدي في النهاية إلى طريق الله ، فسأله ابن المبارك: أتصون سمعتها وتلوث سمعتك ؟ فأجابه ميمون: أردت بذلك وجه الله تعالى الستار جل وعلا ، فكان ذلك مفتاح القرب منه والوصول إلى ه، والآن .. دعني يا سيدي أمضي إلى ما أنا ماض إليه، ثم قام فصلى ركعتين خفيفتين كأنها صلاة الوداع ، ثم اضطجع على الأرض جاعلا وجهه تجاه الكعبة وهو يقول : إلهي .. كما كشفت إلى وم سري للناس ، فاسترني بلقائك.. إلهي.. إن كنت تحبني بعد كما أحبك ، فاقبضني إليك الساعة .. الساعة.. الساعة.


ويروى ابن المبارك : فدنوت منه وحركته ، فإذا هو قد مات ..
إنا لله وإنا إليه راجعون. وصدق رسول اللهﷺ إذ يقول : رب أشعث أغبر .. لو أقسم على الله لأبره ".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق